فصل: تفسير الآيات (44- 46):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال مقاتل: الفواحش موجبات الحدود.
وقال السدّي: هي: الزنا {وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ} أي: يتجاوزون عن الذنب الذي أغضبهم، ويكظمون الغيظ، ويحلمون على من ظلمهم، وخصّ الغضب بالغفران؛ لأن استيلاءه على طبع الإنسان، وغلبته عليه شديدة، فلا يغفر عند سورة الغضب إلاّ من شرح الله صدره، وخصه بمزية الحلم، ولهذا أثنى الله سبحانه عليهم بقوله في آل عمران {والكاظمين الغيظ} [آل عمران: 134] قال ابن زيد: جعل الله المؤمنين صنفين: صنفًا يعفون عن ظالمهم، فبدأ بذكرهم، وصنفا ينتصرون من ظالمهم، وهم الذين سيئاتي ذكرهم.
{والذين استجابوا لِرَبّهِمْ وَأَقَامُواْ الصلاة} أي: أجابوه إلى ما دعاهم إليه، وأقاموا ما أوجبه عليهم من فريضة الصلاة.
قال ابن زيد: هم: الأنصار بالمدينة استجابوا إلى الإيمان بالرسول حين أنفذ إليهم اثني عشر نقيبًا منهم قبل الهجرة، وأقاموا الصلاة لمواقيتها بشروطها، وهيئاتها {وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ} أي: يتشاورون فيما بينهم، ولا يعجلون، ولا ينفردون بالرأي.
والشورى مصدر شاورته مثل البشرى، والذكرى.
قال الضحاك: هو تشاورهم حين سمعوا بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم، وورود النقباء إليهم حين اجتمع رأيهم في دار أبي أيوب على الإيمان به، والنصرة له.
وقيل: المراد تشاورهم في كلّ أمر يعرض لهم، فلا يستأثر بعضهم على بعض برأي، وما أحسن ما قاله بشار بن برد:
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن ** برأي نصيح أو نصيحة حازم

ولا تجعل الشورى عليك غضاضة ** فإن الخوافي قوّة للقوادم

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه في أموره، وأمره الله سبحانه بذلك، فقال: {وَشَاوِرْهُمْ في الأمر} [آل عمران: 159]، وقد قدّمنا في آل عمران كلامًا في الشورى {وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ} أي: ينفقونه في سبيل الخير، ويتصدّقون به على المحاويج.
ثم ذكر سبحانه الطائفة التي تنتصر ممن ظلمها، فقال: {والذين إِذَا أَصَابَهُمُ البغى هُمْ يَنتَصِرُونَ} أي: أصابهم بغي من بغى عليهم بغير الحق، ذكر سبحانه هؤلاء المنتصرين في معرض المدح كما ذكر المغفرة عند الغضب في معرض المدح؛ لأن التذلل لمن بغى ليس من صفات من جعل الله له العزة حيث قال: {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}.
[المنافقون: 8]، فالانتصار عند البغي فضيلة، كما أن العفو عند الغضب فضيلة.
قال النخعي: كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم، فيجترئ عليهم السفهاء، ولكن هذا الانتصار مشروط بالاقتصار على ما جعله الله له وعدم مجاوزته كما بينه سبحانه عقب هذا بقوله: {وَجَزاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا}، فبيّن سبحانه أن العدل في الانتصار هو: الاقتصار على المساواة، وظاهر هذا العموم.
وقال مقاتل، والشافعي، وأبو حنيفة، وسفيان: إن هذا خاص بالمجروح ينتقم من الجارح بالقصاص دون غيره.
وقال مجاهد، والسدّي: هو جواب القبيح إذا قال: أخزاك الله يقول: أخزاك الله من غير أن يعتدي، وتسمية الجزاء سيئة إما لكونها تسوء من وقعت عليه، أو على طريق المشاكلة لتشابههما في الصورة.
ثم لما بيّن سبحانه أن جزاء السيئة بمثلها حق جائز بين فضيلة العفو، فقال: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله} أي: من عفا عمن ظلمه، وأصلح بالعفو بينه، وبين ظالمه أي: أن الله سبحانه يأجره على ذلك، وأبهم الأجر تعظيمًا لشأنه، وتنبيهًا على جلالته.
قال مقاتل: فكان العفو من الأعمال الصالحة، وقد بينا هذا في سورة آل عمران.
ثم ذكر سبحانه خروج الظلمة عن محبته التي هي سبب الفوز، والنجاة، فقال: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين} أي: المبتدئين بالظلم قال مقاتل: يعني: من يبدأ بالظلم، وبه قال سعيد بن جبير.
وقيل: لا يحبّ من يتعدّى في الاقتصاص، ويجاوز الحدّ فيه؛ لأن المجاوزة ظلم.
{وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ} مصدر مضاف إلى المفعول، أي: بعد أن ظلمه الظالم له، واللام هي: لام الابتداء.
وقال ابن عطية: هي: لام القسم، والأوّل أولى.
ومن هي الشرطية، وجوابه {فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مّن سَبِيلٍ} بمؤاخذة، وعقوبة، ويجوز أن تكون من هي الموصولة، ودخلت الفاء في جوابها تشبيهًا للموصولة بالشرطية، والأوّل أولى.
ولما نفى سبحانه السبيل على من انتصر بعد ظلمه بيّن من عليه السبيل، فقال: {إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَظْلِمُونَ الناس} أي: يتعدّون عليهم ابتداء كذا قال الأكثر.
وقال ابن جريج: أي: يظلمونهم بالشرك المخالف لدينهم {وَيَبْغُونَ في الأرض بِغَيْرِ الحق} أي: يعملون في النفوس، والأموال بغير الحقّ كذا قال الأكثر.
وقال مقاتل: بغيهم عملهم بالمعاصي.
وقيل: يتكبرون، ويتجبرون.
وقال أبو مالك: هو ما يرجوه أهل مكة أن يكون بمكة غير الإسلام دينًا، والإشارة بقوله: {أولئك} إلى الذين يظلمون الناس، وهو مبتدأ، وخبره: {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: لهم بهذا السبب عذاب شديد الألم.
ثم رغب سبحانه في الصبر، والعفو، فقال: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ} أي: صبر على الأذى، وغفر لمن ظلمه، ولم ينتصر، والكلام في هذه اللام، ومن كالكلام في، ولمن انتصر {إِنَّ ذلك} الصبر، والمغفرة {لَمِنْ عَزْمِ الأمور} أي: أن ذلك منه، فحذف لظهوره، كما في قولهم: السمن منوان بدرهم.
قال مقاتل: من الأمور التي أمر الله بها.
وقال الزجاج: الصابر يؤتى بصبره ثوابًا، فالرغبة في الثواب أتم عزمًا.
قال ابن زيد: إن هذا كله منسوخ بالجهاد، وأنه خاصّ بالمشركين.
وقال قتادة: إنه عام، وهو ظاهر النظم القرآني {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن وَلِىّ مّن بَعْدِهِ} أي: فماله من أحد يلي هدايته، وينصره، وظاهر الآية العموم.
وقيل: هي خاصة بمن أعرض عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعمل بما دعاه إليه من الإيمان بالله، والعمل بما شرعه، والأوّل أولى.
وقد أخرج أحمد، وابن راهويه، وابن منيع، وعبد بن حميد، والحكيم الترمذي، وأبو يعلى، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والحاكم عن عليّ بن أبي طالب قال: ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله حدّثنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أصابكم مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ}، وسأفسرها لك يا عليّ: «ما أصابكم من مرض، أو عقوبة، أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم، والله أكرم من أن يثني عليكم العقوبة في الآخرة، وما عفا الله عنه في الدنيا، فالله أكرم من أن يعود بعد عفوه».
وأخرج عبد بن حميد، والترمذي عن أبي موسى، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يصيب عبدًا نكبة، فما فوقها أو دونها إلاّ بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر» وقرأ: {وَمَا أصابكم} الآية.
وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي الدنيا في الكفارات، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب عن عمران بن حصين: أنه دخل عليه بعض أصحابه، وكان قد ابتلي في جسده، فقال: إنا لنبتئس لك لما نرى فيك، قال: فلا تبتئس لما ترى، فإن ما ترى بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر، ثم تلا هذه الآية: {وَمَا أصابكم مّن مُّصِيبَةٍ} إلى آخرها.
وأخرج أحمد عن معاوية بن أبي سفيان: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من شيء يصيب المؤمن في جسده يؤذيه إلاّ كفر الله عنه به من سيئاته» وأخرج ابن مردويه عن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما عثرة قدم، ولا اختلاج عرق، ولا خدش عود إلاّ بما قدمت أيديكم، وما يعفو الله أكثر» وأخرج ابن المنذر من طريق عطاء عن ابن عباس في قوله: {فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ على ظَهْرِهِ} قال: يتحرّكن، ولا يجرين في البحر.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه في قوله: رواكد قال: وقوفًا {أَوْ يُوبِقْهُنَّ} قال: يهلكهن.
وأخرج النسائي، وابن ماجه، وابن مردويه عن عائشة، قالت: دخلت عليّ زينب، وعندي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبلت عليّ، فسبتني، فردعها النبي صلى الله عليه وسلم، فلم تنته، فقال لي:
«سبيها، فسببتها حتى جفّ ريقها في فمها، ووجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل سرورًا» وأخرج أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المستبان ما قالا من شيء، فعلى البادىء حتى يعتدي المظلوم»، ثم قرأ: {وَجَزاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا}.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم القيامة أمر الله مناديًا ينادي: ألا ليقم من كان له على الله أجر، فلا يقوم إلاّ من عفا في الدنيا» وذلك قوله: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله}.
وأخرج البيهقي عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ينادي منادٍ: من كان له أجر على الله، فليدخل الجنة مرتين، فيقوم من عفا عن أخيه» قال الله: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله}. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

قال السبكي:
قال رَحِمَهُ اللَّهُ: قوله تعالى: {مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} قول الزَّمَخْشَرِيِّ {مِنْ} إذَا دَخَلَتْ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ كَهَذِهِ الْآيَةِ وَقولنَا: مَا قَامَ مِنْ رَجُلٍ وَشَبَهِهِ هَلْ هِيَ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ الَّذِي هُوَ مَدْلُولُ قولنَا مَا قَامَ، أَوْ لِتَأْكِيدِ إرَادَةِ الْعُمُومِ مِنْ قولنَا (رَجُلٌ) الْمَنْفِيُّ؟ وَالْحَقُّ الثَّانِي وَلِذَلِكَ قال الزَّمَخْشَرِيُّ: مَا مِنْ عَائِبٍ وَلَا عَاتِبٍ وَلَا مُعَاقَبٍ وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ يَنْبَغِي التَّنَبُّهُ لَهَا.
وَمِمَّا يُشِيرُ إلَى ذَلِكَ قوله تعالى: {هَلْ إلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} لَيْسَ الْمُرَادُ الِاسْتِفْهَامَ أَيُّ سَبِيلٍ أَوْ بَعْضُ سَبِيلٍ؟ وَيَسْأَلُ عَنْ قوله: {لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ} وَكَوْنُهُ مَاضِيًا كَيْفَ جَاء بَعْدَ قوله: {وَتَرَى الظَّالِمِينَ} وَهُوَ مُسْتَقْبَلٌ؟ وقوله: {عَلَيْهَا} الضَّمِيرُ لِلنَّارِ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَهَا ذِكْرٌ، لَكِنْ دَلَّ الْعَذَابُ عَلَيْهَا.
قوله تعالى: {إنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ}.
قال رَحِمَهُ اللَّهُ.
قال الزَّمَخْشَرِيُّ يَبْتَدِئُونَهُمْ بِالظُّلْمِ حَسَنٌ؛ وَلَكِنَّ أَحْسَنَ مِنْهُ أَنَّ فِي القرآن إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْمُبْتَدِئَ هُوَ الظَّالِمُ، وَالْمُنْتَصِرَ لَيْسَ بِظَالِمٍ، وَلَا يُوصَفُ فِعْلُهُ بِشَيْء مِنْ الظُّلْمِ.
وَحِينَئِذٍ لَا يَحْسُنُ أَنْ يُقال يَبْتَدِئُونَهُمْ بِالظُّلْمِ لِإِشْعَارِهِ بِأَنَّ الثَّانِيَ ظُلْمٌ غَيْرُ مُبْتَدَأٍ بِهِ، فَيُرَخَّصُ فِيهِ، بَلْ هُوَ لَيْسَ بِظُلْمٍ أَصْلًا، وَإِنَّمَا اسْتَفَدْنَا ذَلِكَ مِنْ إطْلَاقِ الْآيَةِ {يَظْلِمُونَ النَّاسَ} مَفْهُومُهُ أَنَّ غَيْرَهُمْ لَا يَظْلِمُونَ وَأَنَّهُمْ هُمْ ظَالِمُونَ، فَهِيَ جَامِعَةٌ تُسْتَعْمَلُ فِي الْجَانِبَيْنِ لِبَيَانِ ظُلْمِ الْمُبْتَدِئِ بِالسَّيِّئَةِ وَنَفْيِ ظُلْمِ الْمُجَازِي بِهَا.
وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ أَنَّ {إنَّمَا} لِلْحُصْرِ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهَا تَأْكِيدَ النَّفْيِ فِي قوله: {مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} وَإِنَّمَا يُؤَكِّدُ النَّفْيَ إذَا دَلَّتْ عَلَى الْحَصْرِ بِخِلَافِ مَا إذَا جَعَلْنَاهَا لِمُجَرَّدِ الْإِثْبَاتِ.
(آيَةٌ أُخْرَى) قوله تعالى: {إنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} قال الشَّيْخُ الْإِمَامُ: قول الزَّمَخْشَرِيِّ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ وَحَذَفَ الرَّاجِعَ لِأَنَّهُ مَفْهُومٌ كَمَا حُذِفَ مِنْ قولهِمْ: السَّمْنُ مَنَوَانِ بِدِرْهَمٍ أَحْسَنُ مِنْهُ أَنْ يُقال: إنَّ ذَلِكَ إشَارَةٌ إلَى الصَّبْرِ وَالْمَغْفِرَةِ لِدَلَالَةِ {صَبَرَ وَغَفَرَ} عَلَيْهِمَا كَأَنَّهُ قال إنَّ صَبْرَهُمْ وَمَغْفِرَتَهُمْ فَأَغْنَى عَنْ الرَّابِطِ كَقوله: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ}. اهـ.

.تفسير الآيات (44- 46):

قوله تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقولونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقال الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاء يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما بان في هذا الكلام المقتصر على الصبر والجامع إليه الغفر والمقتضي بالنصر أدرجهم كلهم في دائرة الحق، أتبعه من خرج عن تلك الدائرة، فقال مخبرًّا أن ما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن عطفًا على نحو: فمن يهدي الله للوقوف عند هذه الحدود فما له من مضل، مبينًا بلفظ الضلال أن ما شرعه من الطريق في غاية الوضوح لا يزيغ عنه أحد إلا بطرد عظيم: {ومن يضلل الله} أي الذي له صفات الكمال إضلالًا واضحًا بما أفاده الفك بعدم البيان أو بعدم التوفيق لمطلق الصبر أعم من أن يكون الاقتصار على أخذ الحق وبتأخير الحق إلى وقت وبالعفو وبالغفر.
ولما كان الضال عن ذلك لا يكون إلا مجبولًا على الشر، سبب عنه قوله: {فما له} أي في ذلك الوقت {من ولي} أي يتولى أمره في الهداية بالبيان لما أخفاه الله عنه أو التوفيق لما بينه له {من بعده} أي من بعد معاملة الله له معاملة البعيد من وكله إلى نفسه وغيره من الخلق في شيء من زمان البعد ولو قل.
ولما كان مبنى أمر الضال على الندم ولو بعد حين، قال عاطفًا على نحو: فترى الظالمين قبل رؤية العذاب في غاية الجبروت والبطر والتكذيب بالقدرة عليهم، فهم لذلك لا يرجون حسابًا ولا يخافون عقابًا: {وترى} وقال: {الظالمين} موضع {وتراهم} لبيان أن الضال لا يضع شيئًا في موضعه، ولما كان عذابهم حتمًا، عبر عنه بالماضي فقال: {لما رأوا العذاب} أي المعلوم مصير الظالم إليه رؤية محيطة بظاهره وباطنه يتمنون الرجعة إلى الدنيا لتدارك ما فات من الطاعات الموجبة للنجاة {يقولون} أي مكررين مما اعتراهم من الدهش وغلب على قلوبهم من الوجل: {هل إلى مرد} أي رد إلى دار العمل وزمانه مخلص من هذا العذاب {من سبيل}.
ولما أثبت رؤيتهم العذاب، أثبت دنوهم من محله وبين حالهم في ذلك الدنو فقال: {وتراهم} أي يا أكمل الخلق ويا أيها المتشوف إلى العلم بحالهم بعينك حال كونهم {يعرضون} أي يجدد عرضهم ويكرر، وهو إلجاؤهم إلى أن يقارنوها بعرضهم الذي يلزم محاذاتهم لها أيضًا بطولهم ليعلموا أنها مصيرهم فلا مانع لها منهم {عليها} أي النار التي هي دار العذاب مكررًا عرضهم في طول الموقف مع ما هم فيه من تلك الأهوال بمقاساة ما عليهم من الأحمال الثقال حال كونهم {خاشعين} أي في غاية الضعة والإلقاء باليد خشوعًا هو ثابت لهم.